ما يجب من علم التوحيد على كل مكلفٍ وما يجب على بعض المكلفين
فالأول: ويسمى فرضاً عينيّاً وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، والجنة والنار، والثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وسؤال القبر ونحو ذلك.
والثاني: أى الواجب الكفائي معرفة العقائد الإيمانية بدلائلها النقلية الواردة في القرءان والحديث، والأدلة العقلية إلى الحد الكافي لرد الملحدين.
أي يجب أن يكون في المسلمين من يعرف الأدلة الكافية لإبطال تمويهات الملحدين ونحوهم من سائر أعداء الإسلام، والمحرفين للدّين من المنتسبين إليه وهم ليسوا منه كالقاديانية والبهائية وغيرهم.
فلو خلت بلدة من بلاد المسلمين ممن يقوم بالرد عليهم ودحض تشكيكاتهم وتمويهاتهم أثم أهل البلدة كلهم.
وكذلك يجب وجود من يقوم بالرد على المبتدعين الذين هم مسلمون عصاة ضلال فساق كالخوارج.
ويقال بعبارة أخرى: الواجب العيني من هذا العلم قسمان:
قسم لا يحصل أصل الإسلام الذي لا يحصل النجاة من الخلود الأبدي في النار إلا به وهو معرفة الله ورسوله فلا يحصل النجاة من الخلود الأبدي في النار بدون ذلك. فمن عرف الله ورسوله بلا ارتياب ولم يستحضر ما سوى ذلك من أصول العقيدة ونطق بلا إله إلا الله محمد رسول الله ولو مرة في العمر ولم يؤد الفرائض لكنه لا ينكرها فهو مسلم عاص، ويقال له أيضاً مؤمن مذنب.
وقسم يحصل به أصل الإسلام مع زيادة وهو معرفة جميع الضروريات في الاعتقاد وذلك معرفة ثلاث عشرة صفة لله تعالى وهي.
الوجودُ والقدم (أي الأزلية) والبقاءُ والمخالفةُ للحوادث والقيامُ بالنفس ( أي أنه لا يحتاج إلى غيره) والوَحدانية والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والعلم والحياة، ومعرفة أن للأنبياء صفة الصدق والأمانة والتبليغ والفطانة والعصمة وجواز الأعراض البشرية عليهم التي لا تؤدّي إلى الحط من مراتبهم. وبقية ما يتبع ذلك من الإيمان بالملائكة وكتب الله ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره والبعث بعد الموت والثواب والعقاب والجنة والنار والميزان والصراط والحوض وسؤال القبر وغيره كأبدية الجنة والنار ونعيم الجنة وعذاب النار والحساب ونحو ذلك.
قال شمس الدين الرملي الشافعي في شرحه على كتاب الزُّبد (1) ممزوتجا بالمتن: ” (والعِلْمُ أسْنَى سائِرِ الأعمالِ ) أي العلم أرفع وأفضل من سائر الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى لأدلة أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر كقوله تعالى: ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ {18} سورة ءال عمران، وقوله تعالى: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء {28}) سورة فاطر، وخبر مسلم (2): “إذا مات ” الإنسان” (3) انقطع عمله إلا من ثلاثة ” إلا” (4) صدقة- جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له “، وخبر ابن حبان (5) والحاكم (6) في صحيحهما: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع “، وخبر الترمذي (7) وغيره : ” فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ” ولأن أعمال الطاعة مفروضة ومندوبة، والمفروض أفضل من المندوب، والعلم منه لأنه إما فرض عين وإما فرض كفاية، قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة.
والألف واللام في “العلم ” للاستغراق أو للجنس أو للعهد الذكري أو الذهني أي الشرعي الصادق بالتفسير والحديث والفقه (وهو دليل الخير والإفضَال) أي أن العلم دليل الخير أي الفوز بالسعادة الأخروية، والإفضال الإنعام، قال صلى الله عليه وسلم : “من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقا من طرق الجنة” (8).
ثم العلم ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية وقد شرع (9) في ذكرهما مبتدئاً بالأول منهما فقال (فَفَرْضُهُ عِلْمُ صِفَاتِ الفَرْدِ) أي أن من فروض العين علم صفات الله تعالى (10) وما يجب له وما يمتنع عليه ككونه موجوداً واحداً قديماً ليس بجسم. ولا جوهر ولا عرض ولا مختصّ بجهة ولا مستقرّ على مكان، حيّاً قادراً عليماً مريداً سميعاً بصيراً باقياً متكلماً قديم الصفات خالقاً أفعال العباد منزَّهاً عن حلول الحوادث. ولا يعتبر فيها العلم بالدليل بل يكفي فيها الاعتقاد الجازم (مع عِلمِ ما يحتاجهُ المُؤَدّي) أي المكلف بفرائض الله تعالى (مِنْ فَرْضِ دينِ الله في الدوام) أي فرائض الله تعالى مما لا يتأتى فعلها إلا به (كالطُّهْرِ ) عن الحدَث بوضوء أو غسل أو تيمم، والخبث مغلظاً أو متوسطاً أو مخففاً ( والصلاةِ والصيامِ ) فإن من لا يعلم أركان العبادة وشروطها لا يمكنه أداؤها.، وإنما يتعين تعلم الأحكام الظاهرة دون الدقائق والمسائل التي لا تعم بها البلوى، وخرج بقوله: (في الدوام) ما لا جب في العمر إلا مرة وهو الحج والعمرة وما لا يجب في العام إلا مرة وهو الزكاة فلا يتعين علم ما يحتاج إليه في أدائها إلا على من وجبت عليه، فمن له مال زكوي يلزمه تعلم ظواهر أحكام الزكاة، وإن كان ثم ساع يكفيه الأمر، فقد يجب عليه ما لا يعلمه الساعي. وكالفرض فيما ذكره النفل إذا أراد فعله إذا تعاطي العبادة الفاسدة حرام (والبَيْعِ لِلمُحْتَاجِ لِلتَّبايُع ) فيتعين على متعاطي البيع والشراء تعلم أحكامهما، حتى يتعين على الصيرفي أن يعلم عدم جواز بيع الذهَب بالذَّهب والفضة بالفضة إلا مع الحلول والمماثلة والقبض قبل التفرق ولا بيع أحدهما بالآخر إلا مع الحلول والقبض قبل التفرق (وظَاهِرِ الأحْكَامِ في الصنَائِعِ ) فيتعين تعلم ظاهر الأحكام الغالبة فيها على من يعانيها دون الفروع النادرة والمسائل الدقيقة حتى يتعين على الخباز أن يعلم أنه لا يجوز بيع خبز البر بالبر ولا بدقيقه، ويتعين علم ما يحتاج إليه في المناكحات ونحوها (وعلم داءٍ للقلوبِ مُفْسدِ ) لها ليحترز عنه وهو علم أمراضها التي تخرجها عن الصحة فيعلم حدها وسببها وعلاجها (كالعُجْبِ ) وهو استعظام الآدمي نفسه على غيره والركون إليها مع نسيان إضافتها للمنعم ( والكِبْرِ ) وهو أن يتعدى الشخص طوره وقدره وهو خُلُقٌ في النفس وأفعال تصدر من الجوارح ( وَدَءِ الحَسَدِ ) وهو كراهتك نعمة الله على غيرك ومحبتك زوالها عنه وعمل بمقتضاه، ثم ذكر القسم الثاني وهو فرض الكفاية وبه شرع في أصول الفقه فقال (وما سِوى هذا مِنَ الأحْكَامِ ، فَرْضُ كِفَايَةٍ على الأنام ) أي ما سوى فرض العين من علوم أحكام الله كالتوغل في علم الكلام بحيث يتمكن من إقامة الأدلة وإزالة الشبه فرض كفاية على جميع المكلفين الذين يمكن كلا منهم فعله، فكل منهم مخاطب بفعله لكن إذا فعله البعض سقط الحرج عن الباقين، فإن امتنع جميعهم من فعله أثم كل من لا عذر له ممن علم ذلك وأمكنه القيام به أو لم يعلم وهو قريب يمكنه العلم به بحيث ينسب إلى التقصير، ولا إثم على من لم يتمكن لعدم وجوبه عليه ” اهـ.
وقد ألف الحافظ البيهقي الشافعي رحمه الله تعالى كتاباً في بيان ما يجب على المكلفين اعتقاده والاعتراف به سماه “الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد”.
وكذلك السادة الصوفية الصادقون يقدّمون معرفة علم التوحيد على غيره من العلوم أي أول ما يوجبون على المكلف هو الإيمان بالله وهو أصل الواجبات أي الاعتقاد الجازم بوجوده تعالى على ما يليق به وهو إثبات وجوده بلا كيفية ولا كميَّة ولا مكان، والإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبأن ما جاء به هو الحق المبين.
روى أبو القاسم القشيري في رسالته (11) بإسناده إلى أبي محمد رُوَيْم بن أحمد البغدادي أنه سئل عن أول فرض افترضه الله عز وجل على خلقه ما هو؟ فقال: “المعرفة لقوله جل ذِكْره (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{56}) سورة الذاريات) قال ابن عباس: إلا ليعرفون ” اهـ.
ثم قال القشيري (12): “وقال الجُنَيْد: إن أوّل ما يحتاج إليه العبد معرفة صفة الخالق من المخلوق وصفة القديم مِن المحدَث ” اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح صحيح البخاري (13): “قوله عزَّ وجلَّ: ( رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا{114}) سورة طه، واضح الدلالة في فضل العلم، لأن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شئ إلا من العلم، والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص ” اهـ.
فالحاصل أنه يجب على الأبَوَيْن نحوَ أولادهما تعليم الصبي والصبية ما يجب عليهما بعد البلوغ أي مِن أمور الدين الضرورية التي يشترك في معرفتها الخاصُّ والعامُّ، وهو ما كان من أصول العقيدة مِن وجود الله بلا كَيْف ولا مكان، وَوَحْدَانِيَّتِهِ، قِدَمِه وبقائه، وعدم احتياجه. إلى أحد من خلقه، ومخالفته للحوادث في الذات والصفات أي أنه لا يشبه الضَّوءَ ولا الظلامَ ولا الإنسان ولا النبات ولا الجمادات من الكواكب وغيرِها، وأن لله قدرةّ وإرادةّ، وأن إرادته لا تتغير ولا تتبدل، وسمعاً أي يسمع المسموعات كلها بلا أذن، وبَصراً أي يرى من غير أن يكون له حدقة، وعلماً، وحياة أزلية أبدية ليست بروح ولا دم ولا قلب، وكلاماً ليس بحرف ولا صوت ولا لغة. وأن محمداً عبد الله ورسوله العربي الذي وُلِد بمكة وبُعثَ بها وهاجر إلى المدينة ودفن فيها، وأنه صادق في جميع ما أَخبر به وبلغه عن الله تعالى سواء كان مِن أخبار مَن قبله من الأمم والأنبياء وبدءِ الخلق، أو من التحليل أو التحريم لبعض أفعال وأقوال العباد، أو مما أَخبر به مما يحدث في المستقبل في الدنيا وفي الآخرة كالإيمان بعذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين منكرٍ ونكيرٍ والبعث والحشر والقيامة والحساب والثواب والعذاب والميزان والنار والصراط والحوض والشفاعة والجنة والرؤية لله تعالى في الآخرة بلا كيف ولا مكان ولا جهة، وأنه خاتم الأنبياء، وأن الله أرسل أنبياء أولهم ءادم وءاخرهم محمد كلهم موصوفون بالصدق والأمانة والذكاء والتبليغ فيستحيل عليهم الخيانة والرذالة والسفاهة والبلادة، وتجب لهم العصمة من الكفر المعاصي الصغيرة التي فيها خسَّة ودناءة، والعصمة من المعاصي الكبيرة أيضاً كالزنى والسرقة وشرب الخمر قبل النبوة وبعدها، وأنه أنزل كُتباً مع الأنبياء، وأن، لله ملائكة ليسوا ذكوراً ولا إناثاً لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤْمرون، وأن الله سيفني الجن والإنس ثم يُعادون إلى الحياة وأنهم يجازَوْن بعد ذلك على حسناتهم بالنعيم المقيم وعلى سيئاتهم بالعذاب الأليم، وأن الله أعدَّ للمؤمنين داراً يتنعمون فيها تُسمّى الجنة وللكافرين داراً تسمى جهنم.
فهذا وما أشبه ذلك يجب على العبد معرفته.
(1) غاية البيان (ص/ 18- 19- 20).
(2) في الأصل مذكور كلمة “الصحيحين ” والصواب كما ذكرناه فوق لأن البخاري لم يخرج هذا الحديث في صحيحه وإنما أخرجه مسلم وغيره: ) أنظر صحيح مسلم: كتاب الوصية: باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.
(3) في الأصل: “ابن ءادم” وما أثبتناه هو لفظ مسلم.
(4) هذه زيادة أضفناها من صحيح مسلم ليست مذكورة في الأصل.
(5) أنظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (2/307).
(6) 1 لمستدرك (1/ 100- 101).
(7) سنن الترمذي: كتاب العلم: باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة .
(8) سنن أبي داود: كتاب العلم: باب الحث على طلب العلم.
(9) أي ابن رسلان صاحب متن الزُبد.
(10) وهي الصفات الثلاث عشرة التي مرّ ذكرها
(11) الرسالة القشيرية (ص/ 3).
(12) المصدر السابق (ص/ 4).
(13) فتح الباري (1/ 141).